بعد الغزو الإيطالي على مدينة اجدابيا مقر القيادة الليبية, أصبحت كل
المواثيق والمعاهدات لاغية, وانسحب المجاهدون من المدينة وأخذت إيطاليا
تزحف بجيوشها من مناطق عدة نحو الجبل الأخضر, وفي تلك الأثناء تسابقت جموع
المجاهدين إلى تشكيل الأدوار والإنضواء تحت قيادة عمر المختار, كما بادر
الأهالي إلى إمداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح, وعندما ضاق
الإيطاليون ذرعا من الهزيمة على يد المجاهدين, أرادوا أن يمنعوا عنهم طريق
الإمداد فسعوا إلى احتلال الجغبوب ووجهت إليها حملة كبيرة في 8 فبراير
1926م, وقد شكل سقوطها أعباء ومتاعب جديدة للمجاهدين وعلى رأسهم عمر
المختار, ولكن الرجل حمل العبء كاملاً بعزم العظماء وتصميم الأبطال.
ولاحظ الإيطاليون أن الموقف يملي عليهم الاستيلاء على منطقة فزان لقطع
الإمدادات على المجاهدين, فخرجت حملة في يناير 1928م, ولم تحقق غرضها في
احتلال فزان بعد أن دفعت الثمن غاليا. ورخم حصار المجاهدين وانقطاعهم عن
مراكز تموينهم, إلا أن الأحداث لم تنل منهم وتثبط من عزمهم, والدليل على
ذلك معركة يوم 22 أبريل التي استمرت يومين كاملين, انتصر فيها المجاهدون
وغنموا عتادا كثيرا.
- مفاوضات السلام في سيدي ارحومة :وتوالت الانتصارات, الأمر الذي دفع إيطاليا إلى إعادة النظر في خططها وإجراء تغييرات واسعة,
فأمر موسوليني بتغيير القيادة العسكرية, حيث عين بادوليو حاكماً عسكريا
على ليبيا في يناير 1929م, ويعد هذا التغيير بداية المرحلة الحاسمة بين
الطليان والمجاهدين.
تظاهر الحاكم الجديد لليبيا في رغبته للسلام لإيجاد الوقت اللازم لتنفيذ
خططه وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده,وطلب مفاوضة عمر المختار, تلك
المفاوضات التي بدأت في 20 أبريل 1929م,
واستجاب الشيخ لنداء السلام وحاول التفاهم معهم على صيغة ليخرجوا من دوامة
الدمار. فذهب كبيرهم للقاء عمر المختار ورفاقه القادة في 19 يونيو1929م في
سيدي ارحومه. ورأس الوفد الإيطالي بادوليونفسه، الرجل الثاني بعد بنيتو
موسليني، ونائبه سيشليانو، ولكن لم يكن الغرض هوالتفاوض، ولكن المماطلة
وشراء الوقت لتلتقط قواتهم أنفاسها، وقصد الغزاة الغدر به والدس عليه
وتأليب أنصاره والأهالي وفتنة الملتفين حوله..
وعندما وجد المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه اما مغادرة البلاد إلى
الحجاز اومصر أو البقاء في برقة و انهاء الجهاد ..والإستسلام مقابل
الأموال والإغراءات, رفض كل تلك العروض, وكبطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى
الاختيار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
تبين للمختار غدر الإيطاليين وخداعهم, ففي 20 أكتوبر 1929م وجه نداء إلى أبناء وطنه طالبهم فيه بالحرص واليقظة أمام ألاعيب الغزاة.
وصحت توقعات عمر المختار, ففي 16 يناير 1930م ألقت الطائرات بقذائفها على المجاهدين,
- السفاح يتدخل :دفعت مواقف المختار ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة الموقف من جديد وتوصلت إلى
تعيين غرسياني وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية.. ليقوم بتنفيذ خطة
إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في وحشيتها وفظاعتها وعنفها وقد
تمثلت في عدة إجراءات ذكرها غرسياني في كتابه "برقة المهدأة":
1- قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر.
2- إنشاء المحكمة الطارئة في أبريل 1930م.
3- فتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية ونصب المشانق في كل جهة.
4- تخصيص مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء والمقرون
وسلوق من أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الإعتقال والنفي والتشريد.
5- العمل على حصار المجاهدين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة.
إنتهت عمليات الإيطاليين في فزان باحتلال مرزق وغات في شهري يناير وفبراير
1930م ثم عمدوا إلى الإشباك مع المجاهدين في معارك فاصلة, وفي 26 أغسطس
1930م ألقت الطائرات الإيطالية حوالي نصف طن من القنابل على الجوف والتاج,
وفي نوفمبر اتفق بادوليو وغرسياني على خط الحملة من اجدابيا إلى جالو إلى
بئر زيغن إلى الجوف, وفي 28 يناير 1931م سقطت الكفرة في أيدي الغزاة, وكان
لسقوط الكفرة آثار كبيرة على حركة الجهاد والمقاومة.
- الأسد أسيرا :في معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار
نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، فرائها غراتسياني
فقال: "الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما".
وفي 11 سبتمبر من عام 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة
سلنطة في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات
لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقين في وادي بوطاقة ورجحت الكفة
للعدوفأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على
يده مما شل حركته نهائياً. فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول
بندقيته ليدافع عن نفسه، فسرعان ماحاصره العدو من كل الجهات وتعرفوا على
شخصيته، فنقل على الفور إلي مرسى سوسه ومن ثم وضع على طراد الذي نقله رأسا
إلي بنغازي حيث أودع السجن الكبير بمنطقة سيدي اخريبيش. ولم يستطع الطليان
نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.
كان لاعتقاله في صفوف العدو، صدىً كبيراً، حتى أن غراسياني لم يصدّق ذلك
في بادىء الأمر،وكان غراتسياني في روما حينها كئيباً حزيناً منهار الأعصاب
في طريقه إلي باريس للاستجمام والراحة تهرباً من الساحة بعد فشله في
القضاء على المجاهدين في برقة، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال
منه والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه مشككة في مقدرته على إدارة الصراع.
وإذا بالقدر يلعب دوره ويتلقى برقية مستعجلة من نغازي مفادها إن عدوه
اللدود عمر المختار وراء القضبان. فأصيب غراتسياني بحالة هستيرية كاد لا
يصدق الخبر. فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشياً على
قدميه محدثاً نفسه بصوت عال، ويشير بيديه ويقول: "صحيح قبضوا على عمر
المختار ؟ ويرد على نفسه لا، لا اعتقد." ولم يسترح باله فقرر إلغاء أجازته
واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار عمر المختار إلي
مكتبه لكي يراه بأم عينيه.
وصل غرسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر , وأعلن عن انعقاد "المحكمة الخاصة"
يوم 15 سبتمبر 1931م, وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غرسياني في
الحديث مع عمر المختار, يذكر غرسياني في كتابه (برقة المهدأة):
"وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين
التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل, رغم
الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة, وكان وجهه مضغوطا لأنه كان
مغطيا رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر,
وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم
أنه يشعر بمرارة الأسر, ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ
وواضح."